لقد بات إصلاح منظومة التربية و التكوين من القضايا الرئيسية التي تؤرق بال المسؤولين الحكوميين في شتى أنحاء المعمور إيمانا منهم بأن تكوين الرأسمال البشري يعد الدعامة الأساسية لكل نهضة اقتصادية و اجتماعية و تنمية مجتمعية مستدامة. وقد ترجم هذا في تبني العديد من المقاربات و تجريب الكثير من وصفات الإصلاح، قصد الوصول بالتعليم إلى أعلى المستويات وانعكاس ذلك على جودة التكوين والتأهيل للموارد البشرية لتمكينها من الاندماج في محيط عالمي يتميز بالتنافسية في جميع المجالات و مواكبة التطورات و التحولات التي  يشهدها العصر مع تنامي اقتصاديات المعرفة  و تحديات العولمة.

غير أن إصلاح التعليم يحتاج إلى نظرة شمولية تهم كافة الجوانب والمجالات، نظرة تتجاوز المقاربات التجزيئية و الحلول الترقيعية و تتعدى البعد الكمي. فالإصلاح يجب أن يكون شموليا و مبنيا على النوعية و الجودة في مختلف مكونات المنظومة التربوية.  لهذا اختارت بعض الدول الرائدة في مجال التعليم اعتماد نظام الجودة في إصلاح منظوماتها التربوية، نظام أبان عن نجاعته و فعاليته في تحقيق النتائج المرجوة. فما هي إذن معايير الجودة في التعليم ؟ وما هي آليات تحقيق الجودة في إصلاح التعليم ؟

في هذا المقال سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة، كما سنعرض بشكل مختصر أهم معالم التجربة الفنلندية، باعتبارها إحدى أهم التجارب العالمية في مجال تحقيق الجودة في التعليم .

1- مفهوم الجودة، آلياتها و معاييرها

أولا-  مفهوم الجودة

أ- تعريف

الجودة هي نظام إداري يرتكز على مجموعة من القيم و يعتمد على توظيف البيانات و المعلومات الخاصة بالعاملين قصد  استثمار مؤهلاتهم و قدراتهم الفكرية في مختلف مستويات التنظيم على نحو إبداعي قصد تحقيق التحسن المستمر للمؤسسة.

وتشير الجودة في المجال التربوي إلى مجموعة من المعايير و الإجراءات يهدف تنفيذها إلى التحسين المستمر في المنتوج التعليمي، وتشير كذلك إلى المواصفات و الخصائص المتوقعة في هذا المنتوج و في العمليات و الأنشطة التي تتحقق من خلالها تلك المواصفات مع توفر أدوات و أساليب متكاملة تساعد المؤسسات التعليمية على تحقيق نتائج مرضية .

ب- ظهور المفهوم

ظهر مفهوم الجودة QUALITY  في ثمانينات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية مع ارتفاع وتيرة التنافس الاقتصادي العالمي و غزو الصناعة اليابانية للأسواق العالمية. فالجودة مفهوم مقاولاتي بالأساس، يرتبط بالإنتاجية و المردودية و انتقل إلى مجال التعليم على اعتبار أن المؤسسة التعليمية هي مؤسسة لإنتاج الكفاءات و الخبرات القادرة على الابتكار و الإبداع و اللذان بدونهما لا يمكن للمقاولات الصناعية أن تطور إنتاجها و تحسن من منتوجها.

ثانيا–  معايير الجودة في التعليم   

     تختلف معايير الجودة باختلاف المجالات التي تطبقها وتبعا لأنظمة التقييم التي تراقبها، إلا أنها تلتقي جميعها في كثير من المواصفات و المقاييس التي تستند إلى مبادئ و مرتكزات أساسية تهتم كلها بجودة المنتوج النهائي مرورا بمختلف مراحل الإنتاج. والجودة في التعليم لا تخرج عن هذا الإطار إذ تهتم بمواصفات الخريجين من المدارس و نتائج تحصيلهم الدراسي عبر مختلف المراحل و العمليات و كذا القدرة على تجاوز كل المشاكل و المعيقات التي قد تعترض مسارهم عملا بمبدأ الوقاية خير من العلاج. و هذه بعض معايير الجودة في التعليم حسب بعض الدراسات الأكاديمية و البحوث العلمية المهتمة بالموضوع، على أن نعود لنتناولها بالتفصيل في معرض حديثنا عن التجربة الفنلندية:                                

  •  جودة المناهج والمقررات الدراسية.
  •      جودة البنية التحتية.
  •      كفاءة الأطر التربوية و الإدارية.
  •       جودة التكوين الأساسي و المستمر.
  •      التدبير الأمثل للموارد البشرية و المالية.
  •       الانطباع الإيجابي للمستفيدين من خدمات المدرسة.
  •       التحسين المستمر.
  •       نتائج التحصيل الدراسي.

ثالثا-  آليات تحقيق الجودة في إصلاح التعليم

رافق التفكير في الجودة اقتراح مجموعة من الآليات و الدعامات التي من شأنها تحسين وضع المنظومة التربوية و تجاوز مختلف العوائق التي جعلت مستوى التعليم في بلداننا العربية متدنيا. لذا فإن أي إصلاح يجب أن ينطلق من المداخل التالية:

  •    تغيير المناهج و البرامج التربوية: في هذا الصدد يجب العمل على اعتماد استراتيجية جديدة في بناء المقررات تقوم على الكفايات عوض الأهداف و على الكيف عوض الكم و على التعدد و التنوع عوض الأحادية.
  •    تحسين العرض التربوي في المدن و القرى: عملا بمبدأ تكافؤ الفرص يجب توسيع العرض التربوي و تجويده في القرى كما في المدن لإتاحة الفرصة للجميع من أجل إتمام الدراسة في أحسن الظروف، و هنا وجب الاهتمام أكثر بالبنية التحتية للمؤسسات التعليمية و مدها بكل الوسائل و الإمكانيات لتؤدي الأدوار المنوطة بها و تقدم خدمات ذات جودة معتبرة.
  •    العناية بالموارد البشرية: اعتبارا للدور الطلائعي للمورد البشري في الارتقاء بمستوى المنظومة التربوية فلابد من الاهتمام بالأطر العاملة بالقطاع سواء على المستوى المادي و ظروف العمل أو على مستوى التكوين الأساسي و المستمر.
  •    الحكامة و اللامركزية على مستوى التدبير و التسيير: وذلك عبر إرساء آليات الحكامة الجيدة و ترسيخ سياسة اللامركزية و اللاتركيز و التي ترمي إلى تقاسم المهام و اعتماد سياسة القرب و تكييف التوجيهات و السياسات التربوية مع خصوصيات كل منطقة.
  •    التمويل الكافي و ترشيد النفقات: إن أي مشروع للإصلاح يروم التحسين و التطوير يحتاج إلى تمويل كاف لتحقيق المبتغى لكن هذا لا يعني صرف أموال طائلة في أمور لا طائل منها، إذ أن الجودة لا تقاس بقيمة المبالغ و الأموال المرصودة للمشروع و إنما بما يمكن تحقيقه من نتائج على أرض الواقع بأقل التكاليف.
  •    الاستفادة من الخبرات الأجنبية: نظرا لعالمية نظام الجودة بات لزاما الاستعانة بالتجارب و الخبرات الأجنبية، خصوصا من الدول الرائدة و السباقة لتبني هذه المقاربة مع الحرص على القيام بدراسات سوسيولوجية و تاريخية كافية قبل إدخال أي تعديلات على المنظومة التربوية و ذلك لضمان توافقها مع مبادئ نظام الجودة.